نتنياهو والحرب الإقليمية- جنون يقود العالم إلى المجهول؟

منذ اندلاع عملية "طوفان الأقصى" وتأثيرها الزلزالي على الكيان الإسرائيلي، وامتداد هذا التأثير إلى الولايات المتحدة والغرب، ومنذ ردود الفعل التي تلت ذلك، والتي تمثلت في حملة إبادة بشعة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، والتي اتسمت بفقدان العقل والاتزان، والخروج عن كل ما هو متعارف عليه في سياق الصراعات والحروب، حيث أن القتل الجماعي المستمر منذ أشهر ضد المدنيين لا يمكن تبريره بأي شكل من الأشكال، ويعد جريمة إبادة مكتملة الأركان، يتحمل مسؤوليتها مرتكبوها ومن يساندونهم ويدعمونهم.
ومنذ انطلاق العمليات البرية، التي يتكبد فيها الجيش الإسرائيلي خسائر يومية فادحة، فقد حُسمت المعركة عسكريًا لصالح المقاومة الفلسطينية وقيادتها وشعبها الصامد في قطاع غزة طوال الأشهر العشرة الماضية. وقد انضم حزب الله بمقاومته الباسلة مساندًا وداعمًا، ثم توسعت دائرة المساندة لتشمل المقاومة في العراق، وكذلك اليمن الذي حول المساندة إلى حرب شبه دولية، حين امتدت صواريخه لتضرب في "إيلات" (أم الرشراش)، مستهدفة كل سفينة تتجه إلى الكيان الإسرائيلي أو تغادرها. ثم امتد الدعم العسكري ليشمل إيران، بعد الهجوم الغاشم على قنصليتها في دمشق في الأول من أبريل/نيسان 2024.
في ضوء هذه التطورات المتسارعة في الحرب على قطاع غزة، تصاعدت التحذيرات الدولية، على وجه الخصوص، من خطر تحولها إلى حرب إقليمية شاملة. ويا لهول الحرب الإقليمية في ظل موازين القوى العالمية والإقليمية الراهنة، خاصة مع وجود قيادة إسرائيلية متهورة بقيادة نتنياهو، وقيادة أميركية متواطئة بقيادة بايدن، التي تواصل التغطية على جرائم الإبادة الجماعية ودعمها في قطاع غزة، والإصرار على مواصلة الحرب البرية رغم الخسائر الفادحة والتحدي الصارخ للقوانين الدولية والإنسانية، والتلويح بخطر اندلاع حرب إقليمية مدمرة. ولم تتردد دول الغرب عمومًا في الانجرار خلف هذه السياسات المتهورة التي يقودها نتنياهو وبايدن.
تغير قواعد الاشتباك
ومع ذلك، لا يزال من الممكن تجنب اندلاع الحرب الإقليمية، على الرغم من أن استراتيجية نتنياهو، والدعم اللامحدود من بايدن له، كانا يدفعان بشكل موضوعي نحو هذه الحرب، خاصة في ظل فشلهما الذريع في حرب الإبادة والحرب البرية، وعدم قدرتهما على استيعاب فكرة انتصار المقاومة والشعب الفلسطيني في الحرب في حال إعلان وقف إطلاق النار.
والأدهى من ذلك، هو تبني الإدارة الأميركية خطابًا سياسيًا يركز على "اليوم التالي" للحرب، وكيف يجب أن يكون، مع التلويح بوهم حل الدولتين. وقد انخرط الكثيرون، بحسن نية على الأرجح، في الحديث عن هذا "اليوم التالي"، وما يجب أن يكون عليه الوضع الفلسطيني، من وجود قيادة وطنية موحدة، وحكومة مؤقتة، وذلك في الوقت الذي كانت فيه نيران الحرب تشتعل في غزة، وتزداد اشتعالًا يومًا بعد يوم.
لقد عاد نتنياهو من الولايات المتحدة، منتفخ الأوداج، بعد خطابه في الكونغرس ولقاءاته مع بايدن وترامب وهاريس وغيرهم. فقد عاد مدعومًا ومبايعًا، بعد أن تم التغطية على كافة جرائم الحرب والإبادة التي ارتكبها في غزة طوال الأشهر العشرة الماضية.
يكفي أن نتأمل بسرعة في الخطوات التي اتخذها نتنياهو فور عودته من أميركا:
- الخطوة الأولى: عملية اغتيال الشهيد القائد الكبير في حزب الله السيد فؤاد شُكر (السيد محسن)، وذلك في مبنى سكني، أدى قصفه إلى استشهاد سبعة أشخاص وإصابة ثمانية وسبعين آخرين، معظمهم من الأطفال والنساء والمدنيين الأبرياء. لقد أقدم نتنياهو على هذه الضربة وهو يعلم تمام العلم أنها ستغير جذريًا قواعد الاشتباك مع حزب الله، وذلك لحتمية الرد عليها، وبالمستوى نفسه، وفي العمق، أي في تل أبيب أو حيفا أو ما شابه.
ولكن نتنياهو لا يهدف إلى مجرد ضربة مقابل ضربة، ثم العودة إلى قواعد الاشتباك السابقة، وإنما يسعى إلى الرد على الرد، وبالتالي فتح الأبواب على مصراعيها لحرب إقليمية شاملة.
- ثانيًا: إذا توقفنا أمام عملية اغتيال الشهيد القائد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الدكتور إسماعيل هنية في طهران – وذلك أثناء زيارة رسمية له لإيران، مما يشكل اعتداءً سافرًا على سيادة إيران وتحميلها مسؤولية دم ضيفها – فإن هذا الاغتيال يستوجب الرد عليه، لما يمثله من مساس بالشرف والكرامة.
وبهذا يكون نتنياهو قد تعمد استفزاز إيران لكي ترد عسكريًا، ومن ثم يقوم هو بالرد عليها، بل ويجر الولايات المتحدة للرد عليها عسكريًا، وبذلك تكون أبواب الحرب الإقليمية قد فتحت على مصراعيها، ليس فقط فيما يتعلق بالاعتداء على حزب الله، وإنما أيضًا فيما يتعلق بإيران، وفي وقت واحد تقريبًا.
كما لجأ نتنياهو إلى قصف أهداف للمقاومة في العراق، واعتدى على الحُدَيْدة في اليمن.
ويجب أن نضيف إلى ذلك التصعيد المستمر في قطاع غزة، وجريمة اغتيال مراسل قناة الجزيرة إسماعيل الغول وزميله المصور رامي الريفي، ليرتفع بذلك عدد الشهداء الصحفيين إلى أكثر من 160 صحفيًا، مما يدين الجيش الإسرائيلي باعتباره مجرم حرب من هذه الزاوية أيضًا.
الخلاصة هي أن الاعتداءين اللذين تعرض لهما كل من إيران وحزب الله، على وجه الخصوص، فضلًا عن الحرب في غزة وما يرتكب فيها من جرائم إبادة جماعية وتجويع وقتل للمدنيين الأبرياء حتى وهم يحاولون الفرار من القصف، قد نقلا حرب المساندة من جانب حزب الله وإيران واليمن والعراق – كما أكد ذلك السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، في خطابه في الأول من أغسطس 2024 – إلى حرب مواجهة مباشرة، كما هي الحرب الدائرة في غزة.
التحرك للجم الجنون
وبهذا أصبحت الحرب الإقليمية على الأبواب، بل تحولت إلى قرار إسرائيلي-أميركي اتخذ خلال زيارة نتنياهو للولايات المتحدة. فكل ما يفعله نتنياهو بعد هذه الزيارة يهدف إلى إغلاق جميع الفرص المتاحة لتجنب هذه الحرب الإقليمية.
من هنا، يجب على جميع القوى والدول، ولا سيما الصين وروسيا، التحرك بأقصى سرعة ممكنة للجم هذا الجنون الذي تعبر عنه سياسات نتنياهو، والتي أصبحت للأسف سياسات أميركية أيضًا.
وإلا فكيف يمكن تفسير عمليات الاغتيال وإجبار كل من حزب الله وإيران على الرد عليها؟ ومن ثم الانتقال بالحرب في غزة من مجرد مساندة إلى حرب إقليمية شاملة؟
ملاحظتان: أولًا، موازين القوى العالمية والإقليمية، وعلى مستوى حرب غزة والمساندة، ليست في صالح نتنياهو وبايدن، وسوف ينهزمان فيها رغم كل الأهوال.
وثانيًا، على الذين انغمسوا في البحث عن "اليوم التالي" للحرب في غزة أن ينسوا كل ما قالوه وفعلوه، وأن يسألوا اليوم عن "اليوم التالي" للحرب الإقليمية.
إذا كانت التطورات التي يفرضها نتنياهو تقود حتمًا إلى الحرب الإقليمية التي يسعى إليها، فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يمكن لأميركا (بايدن وترامب والدولة العميقة) أن تسمح له بقيادتها وجرها إلى حرب إقليمية لا تريدها، كما عبر عن ذلك ما نشر من أنباء عن خطاب غاضب وجهه بايدن إلى نتنياهو، في الوقت الذي يعلن فيه التزامه بالدفاع عن الكيان الإسرائيلي في حالة نشوب حرب إقليمية؟
والسؤال الثاني: كيف يمكن لروسيا والصين ودول العالم أجمع أن تصبح أسيرة لنتنياهو، وهو يجر الجميع إلى حرب إقليمية، بينما الكل يعلن ضرورة تجنبها لما تحمله من أخطار على السلم العالمي بأكمله؟
وهذا السؤال نفسه يمكن أن يوجه إلى معارضي نتنياهو من قادة وجنرالات في الكيان الإسرائيلي، وهو يجرهم إلى حرب لابد لهم من الوقوف معه فيها، في حين لا توجد ضمانة لكسبها، ولا ضمانة لما قد تسفر عنه من خطر وجودي على الكيان الإسرائيلي نفسه.
فهو يقاد من قبل شخص مجنون، ثبت طوال حرب دامت عشرة أشهر أنه فاشل ومهزوم، وما يحركه لا علاقة له بميزان قوى موات، بل قد يحمل معه نكسة خطيرة جدًا (وهو أمر ممتاز). لأن الحرب الإقليمية أكبر بكثير من حدود غزة، وتذهب إلى نتائج واحتمالات غير محسوبة بدقة على الأقل.
والسؤال الأهم يوجه إلى هيئة الأمم المتحدة والدول العربية والإسلامية، بهدف تجنب الحرب الإقليمية: كيف يمكن السماح لنتنياهو بأخذ الجميع نحو هذه الحرب المدمرة؟
إن الإجابة على كل هذه التساؤلات يجب أن تفضي إلى لجم جموح نتنياهو، وبذل كل الجهود الممكنة لتجنب الحرب الإقليمية التي يسعى إليها بكل ما أوتي من قوة، والتي تدل على انفصاله التام عن الواقع، إلى حد يستوجب فرض الحجر عليه.